صحيفة كورة سودانية الإلكترونية

مصطفى عبد الحميد السنهوري رحمه الله ومضة شفيفة في طريق العلم

270

مصطفى عبد الحميد السنهوري رحمه الله
ومضة شفيفة في طريق العلم

الخرطوم : الأماتونج
كان المعلمون القدامى رسل علم حقيقيين، دفعتهم الرغبة في التعليم، والبحث عن فرصة للعيش تكون أحسن حالا عما كانوا يجدونه في بلادهم، وهدفا غاليا تعلموه من أسلافهم بقيمة إفادة الناس، وبذل المعرفة لهم، ومنحهم العلم الذي ينير دروبهم، ويضئ حياتهم.
كانوا آية في المعرفة والعلوم، قمة في الأخلاق، قدوة في التعامل، وسمتهم يشي بالهيبة والوقار، معارفهم عالية، وخطوطهم جميلة، ورفقتهم يؤطرها الحرص والشفقة على التلامذة، كان ذلك على الأقل هو الأعم الأغلب.
في أحد أيام الخريف من عام ألف وتسعمائة وواحد وثمانين دخل علينا رجل مربوع القامة معتدل الهيئة يلبس نظارة طبية ظلت ملازمة له طوال فترة مكوثه لدينا، عليه هيبة ووقار تفوقانِ عمره، وتمنحانهِ قبولا فطريا في النفوس، خاصة وأنا استبشرنا بمقدمه خيرا، إذ أن أي قادم إلينا سيكون أفضلَ من سلفه حتماً، على الأقل سينتهي ذلك الضجرُ والملل اللذان يهيمنان على حصة اللغة الإنجليزية، حصة كئيبة، لا نكاد نأخذ منها علما، ولا نفيد منها أدبا، ولا نجد فيها راحة، كان المعلم السابق قد وجد تركةً ثقيلةً من عدم الاستيعاب، وقلة الفهم، وندرة المشاركة، واتخذ معنا أسلوبَ عتابٍ متصلاً يذهب بثلث الحصة تقريبا، والحمد لله أنها بالإنجليزية، لكن كلمتين ما زالتا تخترقان أذنيَّ حتى الآن، تصفان الصف كله بالبلاهة والغباء، لا أدرى لمَ كنا نفهم تلك الكلمات حينها!.
علاقتنا مع الإنجليزية ليست على ما يرام، وأي معلم سيأتي سنكون عبئاً عليه، وستكون حصته ثقيلة على أنفسنا مهما بلغ من جهده وحرصه وإخلاصه، كنا نغبط المعلمين وهم يتكلمون هذه اللغة المستعصية بطلاقة، ونكرههم في ذات الوقت لأنهم يتكلمون بها طوال الحصة دون أن نفهم ما يقولون، ونظل في حالة من قلة التركيز، وعدم الفهم، وربما رافقها شيء من الفوضى التي يتقنها الطلبة في ذلك العمر.
بمجيء الأستاذ مصطفى عبد الحميد على بن عوف السنهوري
بدأت النظرةُ للإنجليزية تتغير، وبدأ فهمها وإن كان بطيئا يتسرب إلى عقولنا، وبدأت كلماتها تعبر ذاكرتنا شيئا فشيئا، على الأقل أحببنا حصته ووجوده بيننا، كان يبذل جهدا كبيرا معنا كمعظم المعلمين، ولكنه كان يفوقهم بأبوته الجميلة، وحميميته الرائعة وخلقه الرفيع، كان يسترق العربية في ترجمة بعض الكلمات، مع أن ذلك كان ممنوعا في الفصل حينها – ولا ندري لأي سبب يفعلون ذلك – لعلهم يظنون أن بعضا من العربية سيعوق بلاغة الإنجليزية وسيفسد السليقة في ألسنتنا، أو أننا سنفقد لهجة بادية يورك شاير!
وبالرغم أن النحو في الإنجليزية ليس أمراً سهلاً، لكنه شيئاً فشيئاً بدأنا بفضل أستاذنا الصبور ومعلمنا المثابر نفك بعضاً من رموزه، ونحل شيئاً من تصاريفه وألغازه، بيد أن أجمل الحصص كانت حصة القراءة، كان يقرأ بالإنجليزية ويطلب منا القراءة أحياناً، ويشرح أحيانا أخرى، ويترجم ما خفي علينا من الكلمات، وما أكثرها!
قرأنا معا مختصراً لرواية «اللؤلؤة» للروائي الأمريكي «جون شتاينبك» كانت رواية جميلة مؤثرة، وقرأنا أيضا رواية «اختطاف» للروائي الأسكتلندي «روبرت لويس ستفنسون»، كنا نشعر أنه يريد أن يقربنا لهذه اللغة التي كنا ننظر إليها – وما زلنا – على أنها لغة عدائية وُجدتْ كي تهزمنا وتؤذينا، وإلا فما معنى هذا الاستغلاقِ الكبيرِ في فهمها، وما معنى أن تظلَّ عصيّة على الفهم والاستيعاب والقبول طيلة هذه السنين، وكيف أنها برغم ما بُذل وسيبذل من أجلها لم تقبلها عقولُنا ولا قلوبُنا ولا ألسنتُنا، فلم نمنحها ودَّنا، وظللنا نافرين منها نتشاغل عنها لأي سبب.
دفعه حرصُه علينا كي نستوعب رواية «اختطاف» ونقترب منها ومن لغتها أن يحدث الطلبة في البحث عن فيلم سينمائي لهذه الرواية، وبعد بحثٍ شديد وجدنا فيلما أُنتج في السبعينيات لهذه الرواية، وتبرع أحد الطلبة بجهاز فيديو، ورتّب لنا جلسة جميلة في بيته، وتحوّل الفصل كله في أحد نهارات ربيع ألف وتسعمئة واثنين وثمانين للميلاد في دار هذا الطالب، وجلسنا كلنا حول الشاشة نشاهد الفيلم، ونقارن بينها وبين الرواية أحيانا بما يمنحنا إياه فهمُنا اليسير لتفاصيل الرواية، كان الأستاذ مصطفى يراقبنا عن كثب، ويشاركنا متعتنا، ويضحك من تعليقاتنا، فلغة الفيلم كانت إنجليزية قحة، وظهرتْ بها شخصياتٌ أخرى غير التي في الرواية، لاحظها بعض الطلبة بسرعة.
مع الوقت ظهرت ثمارُ جهد الأستاذ مصطفى، وأينع قطافُ بذله وعطائه، بدأنا نألف الحصة، ونشارك في أنشطتها، ونجيبُ على أسئلتها ونقرأ بطلاقةٍ هذه اللغة العتيّة، وارتفعت درجاتنا، وبعد أن كنا ننجح بالرأفة والشفقة خشية أن نعيد المادة أو السنة كاملة، رحنا نقترب من الدرجات النهائية، وصارت اللغة الإنجليزية مادة محببة، كيف فعلنا ذلك؟! ونحن الذين مرت علينا سنوات طوال لا نكاد نفهم من صرفها ونحوها ولغتها وأدبها شيئا؟
لم يكن الأستاذ مصطفى يؤنب أحداً أو يعاقب طالباً أو يعنّف من يتجاوز حدود اللياقة الأدبية في الفصل، لكنه أحياناً يشير بيده، ويستنصت الطلبة بهدوء، ويصبر عليهم، وربما ألقى كلمة عابرة كفيلة بإسكات الطالب حين يتجاوز حدوده، فمرة شبّه طالباً كثير الكلام بشخصية «فان هوفر» تلك الشخصية النسائية كثيرة الثرثرة في رواية «ريبيكا» للكاتبة الإنجليزية «دافني دو مورييه»، كانت كفيلة بإنصات الطالب واستماعه للحصة دون ثرثرة.
مضت الأيام وانتهت أيام الدراسة، وكان غراس الأستاذ قد أثمر بارتفاعٍ في مجموع الدرجات وعلو النسب، ومن العجيب أني قد حصلتُ على درجة مساوية لدرجة اللغة العربية، ويومها قررتُ أن أدخل كلية اللغة العربية، وضربت صفحاً عن الإنجليزية التي كنت متفوقاً فيها لحظتها، كنتيجةٍ حتميّة لجهد الأستاذ مصطفى معنا حتى ارتفع مستوانا فيها.
حين التقينا بعد الإجازة الصيفية، وبعد القبول في الجامعات، سألني كأي معلم مخلص حريص عن تخصصي القادم؟ وحين أخبرته، لم يتلقَّ الخبر بسهولة، ولم يعاتبني، ولكني أحسستُ بأنه قد سُقط في يده من اختياري! فأنا أحد طلبته الذي رآهم خلال عامين يتحولون من طلبة خاملين في الإنجليزية إلى طلبة مميزين، بفضل بذله وعطائه وإخلاصه وحرصه، فقال لي: العربية موجودة معك وأنت تحتاج إلى الإنجليزية لأنها لغة العلم، آثرت الصمت، واعتذرت بأني أحب هذا التخصص، ومضيت في طريقي العلمي ودرست اللغة العربية وآدابها.
مضت أيام الدراسة سريعا، وبعد التخرج كان من حسن حظي أننا زاملته في مديرية التربية والتعليم، وكان قد تحول من التدريس إلى الإشراف، وكنا نلتقي يوميا تقريبا، ظل الأستاذ مصطفى يحمل تلك الروح النقية، والصفاء الفطري، والرقي الأخلاقي، والأدب العالي في التعامل قلما تجد له نظيرا.
كان يعيش في سُكنَى الموجهين، وهي غرف صغيرة مفردة لكل موجه، بها مرافقها العادية، ولكنها كانت ضيقة جدا، وبرفقته صفوة من التربويين معظمهم من الزملاء المصريين، وفي آخر النهار، كان يجتمعون على مصطبة اسمنتية، ويمكنك أن تسمع أحاديث متفرقة عالية النسق في شتى المجالات مشوبة بحس فكاهي ساخر، وموهبة نقدية أقرب إلى الكوميديا السوداء، ولا أدل على ذلك من أنهم أطلقوا على مكانهم الذي يسكنون فيه «كفر الغلابة».
كانت رؤيته للأمور في غاية الإيجابية، وروحه الجميلة قلّما تحب المصادمة، يشجع طلبته، ويعين المعلمين الذي يشرف عليهم، ويسهّل عليهم التزاماتهم، ويدفعهم نحو تقديم الأفضل بهدوء محفز وإيجابي.
وكان يشكر للناس عطاءهم، ويحترم بذلهم، فقد كان لديهم موجه مصري اعتاد أن يصنع وجبة عشاء كل خميس لزملائه في «كفر الغلابة» وفعل ذلك طيلة أربع سنوات عن رضا وطيب خاطر وأريحية عجيبة.
أخبرني الأستاذ مصطفى أنه حاول أن يردَّ بعض الكرم لهذا الموجه المصري، وفعل ذلك مرة أو مرتين، وقال لي: أدركتُ بعدها أني لا أستطيع أن أبلغ شأو هذا الرجل، فالأمر لا يبدو سهلا كما كنت أتخيل، فلذا آثرت أن يكرمنا كما يحب.
كنا نتناقش أحيانا عن بعض الأمور الأدبية بحكم دراستي، لعلي كنت أريد أن أخفف عليه مسألة اختياري لدراسة اللغة العربية وآدابها، كان السودان ثرياً بعلمه وأدبه، ولكنه بعيدٌ عنا وما زال، لم نكن نحظى بأدبه إلا لمماً.
وذات مرة وهو يتهيأ للسفر للخرطوم طلبتُ إليه أن يجلب لي في عودته كتاب «المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها» للدكتور عبد الله الطيب، وحين عاد كان في يديه كتابان آخران لعبد الله الطيب ليس بينهما الكتاب الذي أردت، وأخبرني أنه بحث عنه طويلا فلم يجده، ولم أرَ كتابا أهمله أهلُه ودارسو الأدب والشعر، كهذا الكتاب، فهو كنز علمي وثقافي وأدبي يحتاجه كل دارس للأدب، ولكنه نادر الوجود بين أيدي الباحثين.
كان الكتابان كفيلين أن يأخذا وقتا جيدا مني لقراءتهما، كونهما أتيَا من بلد ملئ بالثقافة والعلم والأدب، ومن خلال الحديث مع معلمي الجليل، وحرصه على التنوع الثقافي الذي كان يحمله بين جوانحه، بدأت أتعرف على بعض أدباء السودان، المشهورين على الأقل منهم، محمد المهدي المجذوب، والطيب صالح، والتيجاني بشير، وإدريس جماع وغيرهم،
بيد أن تكوين أستاذي الديني جعله يميل ناحية الثقافة الدينية، كان يحضر معنا درسا للتجويد مع شيخنا المصري، ويطلب أحيانا بعض الكتب لقراءتها، وأذكر أنه مرة طلب أن أعيره تفسير «في ظلال القرآن» فأعرته المجلد الأول، وقرأ مقدمته، وحين التقيته وسألته عن الكتاب، كان مأخوذا بذلك الأسلوب الراقي في التفسير، وتلك الظلال القرآنية الوارفة التي استطاع فيها صاحبها، أن يرينا كيف يتفيأ ظلاله ويعيش في أفيائه، وينهل من معينه الذي لا ينضب.
كان تدينه جميلا، يتجسد في اهتمامه البالغ بواجباته الدينية وسمته الوقور، ونقاشه الهادئ، وتفاعله مع قضايا المجتمع المسلم بأطيافه المختلفة كافة، ورؤياه المتزنة لكثير من الموضوعات التي تملأ الساحة الدينية والثقافية آنذاك.
لم أره قط منفعلا، ولا خرج عن سياق اللياقة الأدبية، ولا أدخل ذاته الجميلة في نقاشات خاسرة، ولم يخرجه خلقه الرفيع وأدبه الجمّ عن حد الاعتدال الحكيم الذي كان يتحلى به.
وحين قرر أن يودعنا، صنع له طلبتُه حفلَ توديع يسيراً، أقل من مكانته وفضله بالطبع، ولكنه كان عربونَ محبة ووفاء، وبادرةَ امتنانٍ بفضله الكبير عليهم، لم ينسوا كيف أنه أحالهم إلى موقف مختلف من اللغة الإنجليزية، فمعه لم تكن هي ذات اللغة التي يتجهم الطالب بسماع مفرداتها ومصطلحاتها، ولا تلك المادة التي كانوا يكرهونها هي ومعلميها على اختلاف اجناسهم وطرائقهم، فقد أصبحت بسببه مادة محبوبة، وأضحت حصتها أمرا مألوفاً.
لقد كان ذلك انتصارا لنا قبل أن يكون إنجازا له ومكافأة على بذله وعطائه، ويومها سمع مني قصيدة بمناسبة سفره، وبالرغم أنه لم يبدِ فرحا مبالغا فيه لسماعها؛ لكنني أدركتُ حين سمعها، ولم يعهدني أقرضُ الشعر، أدركتُ أنه غفر لي ذنبي القديم بعدم دراستي للغة الإنجليزية. لقد ضاعت القصيدة في دهاليز الزمن، وبقي بيت واحدٌ عالق في ذاكرتي أحسبه كان جميلا لحظتها، ومن المؤكد أن هذا البيت كان سيشتد أوده بوجود بقية الأبيات، فلعل القصيدة بقيت محفوظة لدى أستاذي رحمه الله، يقول البيت:
فإنْ مضيتَ إلى السودانِ مرتحلاً فنحنُ لا أنتَ، في الأوطانِ نرتحلُ
وبيت آخر ذكرت فيه حلفاية الملوك بصيغة مختلفة تحفظ للوزن الشعري مكانته، وتعجب أني أعرف اسم بلدته التي يقطنها، ولقد غابت القصيدةُ، ورحل صاحبُها إلى الحياة الأخرى محفوفاً برحمة الله محفوداً بدعوات ذويه ومحبيه.
لم أر أستاذي بعدها، وظلت زيارتي للسودان غاية لم تتحقق، وحلما مؤجلا ضمن الأحلام المؤجلة الكثيرة، غير أننا حججنا في سنة ألف وأربعمائة وسبعة وعشرين للهجرة في نفس العام، وكيف أنه رأى حافلة عليها اسم بلدتنا، وسأل أحدَ الشباب عنّا، وكنا ساعتها غير موجودين، وأرسل لنا سلاماً معه، وكان صديقي (خميس الجوي) أكثر حرصاً على رؤيته، وقد أخبرني أنه سأل الله أن يلتقي بأستاذه، فوجده قرب روضةِ الحبيب -صلى الله عليه وسلم – وتحادثا ساعة وودّعه، حاولتُ أن ألتقيَ به فلم يُقدّر لي ذلك، لكن روحَه ظلت عالقة بالمكان الأثير.
مرت السنون سريعا، وتفاصيل اللحظات الجميلة لحصة اللغة الإنجليزية مع أستاذنا ما زالت تعبق في ذاكرتنا العلمية، يدثرها الإخلاص والتفاني ودماثة الخلق، وبعضٌ من تلك المعارف والآداب التي اكتسبناها منه، وظلت تجذبنا إليه، وتعيدنا إلى لحظات بعيدة ولكنها كانت جميلة بكل دقائقها وتفاصيلها، وتسبح بنا في عوالم أثيرة، كان فيها التعليم قديما يحمل في طياته رغبة جدّية من المعلم في بذل كل ما بوسعه كي يحفرَ في ذاكرة تلامذته معرفةً عالية، وتحمل صدقاً من قبل الطلبة الذين يبذلون قصارى جهدهم كي يصلوا إلى الغاية التي يرجونها، والبُغية التي ينشدونها.
رحم الله أستاذنا رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته، وعوضه عن جهده وبذله وتعليمه إيانا ثوابا عظيما وخيرا كثيرا.
د. سالم بن سعيد العريمي
صور – سلطنة عُمان

قد يعجبك أيضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبولقراءة المزيد