صحيفة كورة سودانية الإلكترونية

تفكيك.. أم تدمير  ؟

4

 

 

للعطر افتضاح

د.مزمل ابوالقاسم

تفكيك.. أم تدمير  ؟

*لا يوجد خلاف من ناحية المبدأ على أهمية تفكيك الأجهزة الموازية والمؤسسات الرمادية التي أنشأها النظام البائد، ومنحها ميزة الرضاعة من ثدي الدولة بلا كابح ولا رقيب، وسهَّل بها لبعض منسوبيه أن يستحلوا المال العام، حتى أفقروا الدولة، ودفعوا الرئيس المخلوع نفسه إلى مطاردتهم في خواتيم عهده، بعد أن أطلق عليهم مُسمَّى (القطط السمان).
*لا يوجد خلاف كذلك على ضرورة تخليص أجهزة الدولة من قبضة الحزب المحلول، وإبعاد قادته ومشايعيه من قمة هرمها، إنفاذاً لعملية التغيير التي استهدفتها ثورة ديسمبر، وصولاً إلى تفكيك وإزالة كل مظاهر التمكين، التي رهنت الدولة لحزب واحد.
*تتفق كل تلك المطالب مع أهداف الثورة وتتماهى معها، ولا تجد من يعترض عليها، ما خلا المتضررين منها، أو المتأثرين المحتملين بها، ولكن.. هل أفلحت لجنة تفكيك التمكين ومحاربة الفساد في بلوغ تلك الغاية، أو حققت الحد الأدنى منها حتى اللحظة؟
*الإجابة لا تحتمل الاختلاف، ولا تقبل الرد (بنعم)، ودونكم ما حدث في قضية إيقاف صحيفة (السوداني)، التي أخذت بالاشتباه، وأوقفت مع صحف وقنوات أخرى بنهج يتعارض بل يتناقض مع كل شعارات الثورة المنادية بالحرية والعدالة.
*شغلت تلك القضية الرأي العام، وحجبت عن الأنظار قراراً آخر في غاية الخطورة، أصدرته لجنة تفكيك نظام الإنقاذ عبر البنك المركزي في مطلع الشهر الحالي، وقضى بوقف جميع رهونات الأراضي والعقارات التي تتجاوز قيمتها خمسة ملايين جنيه.
*لم يحفل أحد بالقرار، مع أن تأثيراته ومآلاته ونتائجه تفوق ما تبع قرار إيقاف (السوداني) بكثير، لأن حصر رهونات الأراضي عند سقف خمسة ملايين جنيه فقط (تساوي حالياً أقل من خمسة آلاف دولار)، يعني عملياً تعطيل الزراعة، وتدمير الصناعة، وتحجيم الاستثمارات كافة، بشقيها الانتاجي والخدمي، وتقليص حجم الصادرات، لأن تمويل غالب الأنشطة المذكورة يستند إلى تمويلات بنكية، تتطلب توفير رهونات عقارية بما يفوق قيمة التمويل.
*خمسة ملايين جنيه لا تكفي لملء رفوف بقالة صغيرة، أو “كنتين” متواضع في أي حي طرفي، ناهيك عن تمويل زراعة أو خدمات أو صادرات يتطلب إنجازها مليارات الجنيهات، أو تسيير صناعة يتم استيراد مدخلاتها من الخارج، بملايين الدولارات.
*كتبنا من قبل مراراً عن مخاطر إحجام المصارف التجارية عن تمويل قطاع الصادر، وذكرنا أن الإحصائيات الصادرة من البنك المركزي نفسه أكدت أن نسبة تمويل الصادرات انحصرت في ما نسبته (2‎%‎) من كامل قيمة التمويلات البنكية على مدى ثلاث سنوات متتالية، وتساءلنا كيف تتحدث الدولة عن دعم وتشجيع قطاع الصادر لتأمين انسياب العملات الصعبة، وتعزيز احتياطيات البلاد من الدولار، ووقف تدهور قيمة العملة الوطنية، طالما أن البنوك ممتنعة عن تمويل الصادر؟
*قرار تخفيض سقف الرهونات العقارية إلى خمسة ملايين جنيه سيؤدي إلى تخفيض تلك النسبة على قلتها، بل سيحرم قطاع الصادر رسمياً من نيل أي تمويلات مصرفية جديدة، مما يعني تراجع حصائل الصادر إلى حدودٍ صفرية.
*عملياً لن يكون بمقدور أي مُصدِّر أو صاحب مصنع، أو أي مستثمر في المجال الزراعي، أو في قطاع الخدمات أن يحصل على تمويلٍ بنكيٍ يمكنه من تطوير نشاطه، لأنه سيكون مطالباً بأن يمول عمله من موارده الذاتية، بمعزل عن أي دعم من المصارف، حتى ولو كان يمتلك ضمانات عقارية تفوق المبالغ المطلوبة للتمويل.
*فوق ذلك سيؤدي القرار إلى تلاشي المكاسب التي تجنيها البنوك التجارية من عمليات التمويل، وهي تمثل غالب عوائدها، إذ أنها لا تُمارس حالياً أي أنشطة أخرى تمكنها من جني أرباح تعينها على الصمود والاستمرار في أداء أعمالها المعتادة، ما خلا أرباح العمليات التمويلية للمؤسسات والأفراد.
*تبقى الأسئلة قائمة لتستفسر عن مسببات ذلك القرار، والكيفية التي صدر بها، والدوافع التي فرضته، لأنه مدمر بكل الحسابات.
*من يفكر للجنة التفكيك، وما هي المكاسب المرجوة من القرار الخطير؟
*أفيدونا فقد أعيانا التفكير، فلم نجد في ذلك القرار الأرعن مكسباً واحداً يبرر إنفاذه، بينما حوت قائمة مضاره كوارث مؤكدة، وخسائر هائلة، سيتكبدها اقتصاد منهار، يقبع أصلاً في غرفة الإنعاش!!

اليوم التالي

قد يعجبك أيضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبولقراءة المزيد