“الأطفال لا يَعرفون الموضُوعية، وأنا في شَأنِكَ كالأطفَال”.. الكاتبة..!
قَبل دقائقٍ من كتابة هذا المقال أرسلت شقيقتي عبر قُروب “الواتس آب” الخاص بالأسرة، مقطعاً مُصوِّراً صادماً لأطفال أشقياء يُكبِّلون شقيقهم الرضيع بخطَّاف، ثُمّ يقف أحدهم على رأس دولاب الملابس وهو يقوم بإنزال طَرَفَ الحبل الذي كَانَ مَربوطاً إلى ذلك الخطَّاف، نحو أرض الغُرفة، بَينما كان شقيقه الآخر يتولّى بحماسةٍ، مُهمّة التعليق الدرامي على ما أسماه بعملية إنزال الصغير “حمودي”، الذي كان يبدو عليه الاختناق، وهو مُعلّقٌ بين السماء والأرض..!
بعد التّعليق بما يكفي من مفردات الشجب والتنديد بهذه الشقاوة المُفضية إلى الهلاك، ذكَّرتُ صاحبة المقطع – التي تصغرني بنحو تسع سنوات – بحادثة تلقّيت توبيخاً بشأنها عندما كانت هي في سن ذلك الرضيع. يومها كنت أحملها على حجري وألاعبها، ثم طاب لي أن تُشاركني أكل “اللبان”، ثم كيف اكتشفت أمي هذا الأمر، بطبيعة حال الأمهات مع أطفالهن الرُضَّع – حينما يقمن بتدبير شؤونهم – فوبّختني أيما توبيخ..!
وفي اليوم التالي جاءت أمي إلى مجلسنا، شقيقي الأكبر وأنا وهي تتأبّط صحيفة “الشرق الأوسط”، التي كانت هي تحرص على قراءتها، ثُمّ أشارت بسبابتها نحو زاويةٍ صغيرة في أخيرة الصحيفة، كانت تتضمن كل يوم خبراً مفزعاً لحادثٍ ما، تحت عنوان “لا تقرأ هذا الخبر”..!
وقد كان الخبر الصادم في ذلك اليوم لشقيقين – طفل وطفلة في مثل عُمرينا – تركت والدتهما شقيقتهما الرضيعة في رعايتهما وخرجت لزيارة الجيران، ومع ارتفاع درجة الحرارة في ذلك اليوم وارتفاع وتيرة بكاء الرضيعة، وضع الطفلان شقيقتهما الصغرى في الثلاجة، حتى تنعم ببعض البرودة. وعندما عادت الأم – بعد الزيارة – وجدت رضيعتها في رحاب الله..!
ولو تَزامنت طُفولتنا مع تلك الحادثة المأساوية لوفاة أولئك الأطفال الثمانية – الذين وجدوا جسماً غريباً في منطقة سكنهم بمنطقة الفتح في شمال “أم درمان” فظلوا يعبثون به حتى انفجر في وجوههم – لأخبرتنا بما حدث على طريقتها، وهي تُحذِّرنا من خُطُورة اللعب بغنائم الطرقات، على نَحوٍ مُماثل..!
خالص العزاء لأهل أولئك الصغار واسأل الله أن يربط على قلوبهم، وأن يطرح البركة في بقية أبنائهم وبناتهم. وأرجو أن تسمح لي باقتناص هذه السانحة – على طريقة أمي – للتذكير بأهمية “الاستشراف” و”التوقع”، و”الاستصحاب” لطبيعة الظروف البيئية والاجتماعية المُحيطة، في تطوير مناهج الآباء في تربية الأبناء..!
فالمنطقة التي وجد فيها أولئك الأطفال ذلك اللغم تنتشر فيها المُتفجِّرات لأنّها كانت منطقة عسكرية قبل وصول الخُطة الإسكانية إليها، وهو أمرٌ – كان ولا يزال – يستوجب تضمين “الاستصحاب” و”الاستشراف” و”التوقع” في إرشاد الأبناء..!
وكذلك مشاوير الصغار إلى “دكاكين الحلة” في غير أوقات الازدحام، ومثل ذلك بعض الخُطُوط الحمراء، التي يجب أن يرسمها الآباء في علاقة الصغار بكل الغُرباء، وبعض الأقارب. فالعالم من حولنا يتغيّر، من الأزمنة إلى الأمكنة، ومن النفوس والأفئدة إلى طبائع البشر الخطائين. فهل يا تُرى مِن مُذكِّر..؟