صحيفة كورة سودانية الإلكترونية

إستراحة الجمعة : “أغنياء من التعفف” 

11

صباحكم خير – د ناهد قرناص

أغنياء من التعفف

سمعتها وهي تهمس في الهاتف النقال (قول ليهم أمي ما صرفت المرتب .. يومين .. تلاتة بجيب ليكم الرسوم) .. كنت قد مررت بجانبها لبعض شأني .. ناديتها وسألتها (في شنو يا خالتي فلانة) .. هي تعمل معنا مسؤولة عن النظافة .. تأتي مبكرة .. لتنظف المكاتب وأرضية المعامل .. تتحرك بخفة الفراشة لتأتي لك بشئ من الخارج .. لا تكاد تحس بها .. فهي صامتة طوال الوقت .. ومبتسمة لا ترد الا بالحمد الله مستورة عندما تسألها عن الأحوال.. في ذلك اليوم كانت تغالب الدموع عندما قالت لي بعد الحاحي لاعرف المشكلة .. إن ابنها قد تم إرجاعه من المدرسة بسبب عدم سداده الرسوم .. سألتها عن المبلغ .. ردت بعد طول تردد انه (500 جنيه) .. أذكر انها رفضت تماماً أن أدفع عنها الرسوم .. ولم تأخذ المبلغ الا بعد ان وعدتها انني سأعتبره ديناً عليها تسدده على مهلها.

كان ذلك قبل فترة (قبل ان تقفز الرسوم المدرسية بالزانة) .. لكن الذي جعل هذا الموقف يقفز الى ذهني .. مقال عبقري الرواية العربية .. الطيب صالح .. والذي يقول فيه ان ينحاز الى الجانب الانثوي.. ذلك ان الأمهات قد زرعن فينا طمأنينة .. تملأ نفسك باليقين .. وتجعلك فرحاً بما عندك .. ولا تمد عينيك لما عند جارك .. نشأنا في بيوت من الطين متلاصقة .. تشد بعضها بعضا.. كنا نأكل ما يقدم لنا دون تذمر.. ولا احتجاج على نوع الاكل .. نسعد بأصغر الأشياء .. ولا نتكبر اذا أصبنا من الدنيا شيئا .. يحسبنا الكثيرون أغنياء فعلاً .. قال الطيب صالح إن أقرانه في الجامعة كانوا يعتقدون انه ثري .. ذلك انه لا يتذمر ولا يشتكي .. والحادثة أرجعتني الى موقف طريف لا زلنا نذكره أنا وصديقاتي .. كنا في الداخلية نتجاذب أطراف الحديث .. سألتني مهاد (ناهد انتي هسه في الشهر برسلوا ليك كم ؟) .. قلت لها (أنا بصرف في الشهر 750 جنيه) .. صرخت مهاد وشاركتها نهى الاندهاشة (بس ؟ ونحن كل اسبوع نطلع لي أهلنا نشيل منهم 500 جنيه ونجي نكملها كلها ونرجع نشيل تاني الاسبوع البعدو .. كيف تقدري تعيشي بالقروش دي ) .. ضحكت وقلت لها ( يا زولة انت أهلك في بري والتانية أهلها في امدرمان .. كان قطعتوا قروش يلحقوكم بعد ساعة ولا ساعتين .. لكن أنا أهلي وين ؟..كان قطعت .. الا انتظر المحلي يدخل عطبرة) ..

لكن ذلك لم يكن الرد المناسب وان كان صحيحاً .. فالرد الشافي هو ما ذكره الطيب صالح .. تلك الطمأنينة التي زرعتها فينا أمهاتنا .. تلك القناعة .. والعيش على ما عندك .. ومد الرجل على قدر اللحاف .. هذه المرأة الجميلة التي تشاركني العمل في المعمل .. بها من الطمأنينة ما يكفي لأجيال .. كانت تعمل بكل طاقتها وتبتسم في وجه كل من يصادفها .. وهي أقلنا أجرا .. وأكثرنا ثقة .. كثيراً ما كنت أتأملها وهي تحني ظهرها لتنظف مكاناً (غميساً) بين الطاولات .. تكتم آهة تكاد تفلت منها عندما تلتقي نظراتنا .. تعتذر بلطف وهي تطلب مني الخروج من المكتب (عشان الغبار كان كتير أمبارح يا دكتورة )…

كنت دائماً ما اتساءل من اين لها بهذا الجمال كله .. بهذا الصبر والهدوء .. واليقين حتى وجدت الاجابة عند الطيب صالح .. انه الايمان والثقة بالله المزروع منذ الطفولة .. ..رحم الله امهات ذلك الزمان الجميل .. لم نأخذ منهن الا اليسير .. وسلام عليك في الخالدين يا عبقري الرواية العربية .. فالحق معك فان كان الأمان رجلا .. فالطمأنينة بكل تأكيد امرأة.

قد يعجبك أيضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبولقراءة المزيد