صحيفة كورة سودانية الإلكترونية

البقاء المؤقت للأصلح

8

زاوية غائمة
جعفر عباس
البقاء المؤقت للأصلح

‏‏‏‏
اعتدت على تسجيل مراحل نمو عيالي بالكاميرا، مع التركيز على اللقطات الطريفة- تلك التي يكونون فيها في أوضاع مضحكة، ولدي ألبومات عديدة أعود اليها بين الحين والآخر مستعيدا ذكريات عائلية عزيزة على النفس، ولكن صلاحية معظم تلك الالبومات انتهت، بمعنى انها جميعا قديمة، ولا أذكر آخر مرة قمت فيها بطباعة صور فوتوغرافية من أي نوع، ووضعها في البوم، فقد قام الهاتف الذكي بإلغاء الألبوم لأنه مزود بذاكرة تختزن الصور، ولكن صور الجوال معرضة للضياع، فسهولة استخدام الهاتف لالتقاط الصور تجعل أصابع الناس على الزناد: تتك تك تتك، على الدوام، فتتراكم الصور، وتضيع الصور الخاصة والحميمة في الزحمة، ويتطلب رؤية واحد منها تحريك الاصبع كما مايسترو غير ماهر يقود فرقة موسيقية غير متجانسة الآلات.
واختفت الطوابع البريدية، ولعلي من القلائل الذين مازالوا يحتفظون بصناديق بريدية خاصة وإن كنت لا اتفقد محتوياته الا بعد ان تنتهي صلاحيتها، وكان هناك شيء اسمه التلكس اختفى قبل ان يراه معظم الناس، )لا أسفًا عليه(، فاستخدامه كان وقفا على فنيين يتلقون تدريبا معينا، وكانت رسائل التلكس نسخة مطورة نسبيا عن البرقيات بشيفرة مورس: يجلس الفني يتكتك ويخرج شريط من الأوراق به مئات وربما آلاف الثقوب ترمز للكلمات، وراح التلكس فيها إثر علة أمهلته طويلا وحل محله الفاكس )ذكرت أكثر من مرة في مقالاتي أن الاتحاد العربي للاتصالات اصدر قاموسا للمصطلحات الفنية جعل فيه الفاكس »طبقصلة«، وهذه الكلمة التي ماتت في المهد ترمز إلى ذمة الاتحاد لعبارة »طبق الأصل«(.
وكانت هناك أجهزة تليبرِنتر تستخدمها وكالات الأنباء لتزويد الصحف بالأخبار والتقارير، وكانت هذه الأجهزة التي أطلق عليها الصحفيون اسم الـ»تيكرز« لأنها كانت تتكتك بإيقاع سريع منتظم، تجمع بين تقنية البرقيات والآلة الكاتبة والكمبيوتر، وكان على صحفيي أقسام الأخبار ان يراجعوا تلك الأجهزة بانتظام ليخرجوا من كل واحدة منها بلفافات، ثم يجلسوا على طاولاتهم ويفردوا تلك اللفافات ثم يقوموا بتقطيعها غالبا باستخدام المسطرة، لفض الاشتباك بين الأخبار والتقارير، ثم صار التليبرينتر في ذمة التاريخ، بعد ان صارت خدمات الأخبار تصل إلى الصحف من الوكالات عبر الإنترنت.
حتى منتصف تسعينيات القرن الماضي كانت الصحافة مهنة المتاعب فعلا، ولكن بمعنى أن إعداد الصحيفة للطبع كان يتم يدويا: يكتب الصحفي الخبر أو التقرير باليد، ثم يسلمه لمن يطبعه على الآلة الكاتبة، ثم يتم تسليمه لفني إخراج يقوم بقص ولصق كل مادة على لوح )بليت( باستخدام الصمغ، وكنت ترى العمال يحملون تلك الألواح نحو جهاز التصوير فتحسبهم يحملون معجنات العيد للمخبز/ الفرن، وقبل حين ليس ببعيد كنت تجد صورا في الصحف مكتوبا عليها بـ»الزنكغراف«/ الحفر الضوئي، وكانت تلك الصور تبدو وكأنها كانت مبتلة في الأصل، ثم صارت الصحف تتباهى بالصور عبر الأقمار الصناعية، ثم اختفت الكثير من الصحف من المكتبات وصارت تصدر إلكترونيا )وتبذل مجهودا كبيرا لتقنعك لتقرأها ببلاش، وانت تتدلل(.
وهكذا يتحول كل منتج تكنولوجي جديد إلى حوت يبلع ما قبله، لدرجة ان شخصا في الخامسة عشرة قد لا يعرف ما هو الفاكس، مع أنه )الفاكس( مازال يعيش في الكواليس رافضا الانسحاب التام، بل ان الألعاب الإلكترونية قضت على الألعاب التي تتطلب مشاركة بشرية مثل الورق )الكوتشينه( والشطرنج، فصار هواة تلك الألعاب يمارسونها على الكمبيوتر بجعل الكمبيوتر طرفا منافسا، مع ان المتعة في الألعاب الجماعية تكمن في الأنس والتهريج خلال ممارستها، ولكن غواية اللعب في أوقات لا يجد فيها الشخص من يلاعبه جعلت اللعب الإلكتروني ضربا من الإدمان، لدرجة ان هناك عيادات في كوريا الجنوبية واليابان لعلاج مدمني الإنترنت )ميدان جراحة المخ والاعصاب صار يتكلم عن واتساب سيندروم/ متلازمة واتساب، التي تتمثل في آلام مزمنة في فقرات العنق تنجم عن الوتسبة لأوقات طويلة(.

قد يعجبك أيضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبولقراءة المزيد