صحيفة كورة سودانية الإلكترونية

الحبيب, فلسفة حياة

8

حاطب ليل

د. عبد اللطيف البوني

الحبيب, فلسفة حياة


)1 (
كان يأتي لفريقنا ونحن أطفال في رفقة حبوبته مدينة، فكُنَّا نُناديه بالحبيب ود مدينة فكان يُلاطفنا ويلاعبنا فهو صبي ونحن أطفال. في إحدى الأماسي، وفي مسرح المدرسة الصغرى شاهدناه وهو يمثل دورا كوميديا وكان يردد عبارة واحدة )بعرسها أنا(، وكانت العبارة الوحيدة التي خرجنا بها من التمثيلية فسميناه )الحبيب بعرسها أنا(, وهو في صباه هجر المدرسة وصار “مساعدياً” في العربات، فكانت له حركات بهلاونية في الركوب والنزول وفي التخاطب مع سائقه، وأي لوري يركب فيه يُسمَّى بـ)لوري الحبيب(.
)2(
أصبح سائقا كبيرا جاب كل أنحاء السودان، فكانت مجالسته عبارة عن حصة جغرافيا حية, امتلك عربية )ربع عمر( أي هكرة؛ فأصبح يعمل بها محليا، فأصبحت )عربية الحبيب( ملء سمع القرية وهي تتجول حاملة المحاصيل والقصب والطوب والزبالة, وصاحب ذلك احترافه شراء وبيع العربات الهكر، وهو دوما على استعداد لشراء أي عربية مهجورة بالسنوات وإصلاحها وبيعها يأتي إليه الناس من أطراف المنطقة بائعين ومشترين، والشرط الوحيد هو أن تكون العربية )هكرة( لدرجة أننا سُمِّينا أي عربية تسير بالحد الأدنى من المطلوبات بـ)عربية الحبيب(، وكنت لا تراه إلا سائقا أو يعمل في تصليح عربة أو يحمل إسبيرا أو ذاهبا للمسجد والبسمة لا تُفارق محيّاه والطرفة لا تفارق شفتيه.
)3(
طور إحدى )هكراته( إلى باص، وأصبح يعمل به في خط المسيد الخرطوم، وكان أشهر باص في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي في تلك المنطقة، إذا اشتهر ببطء حركته وظرافة سائقه الحبيب، وكتب عليه بالخط العريض: )دايرة صبر(، فسمَّاه الركاب )باص عمك دايرة صبر(، وداخل الباص كنت تجد الموظف والمرأة والدجاج وصفائح السمن وقدر اللبن وجوال الذرة واللوبيا العدسية. هذا في طريق الذهاب وفي العودة تجد جوالات السكر والشاي والصابون ورغيف سيحا، ومهما كان الباص ممتلئا كان الحبيب يتوقف لكل من يؤشر له على الشارع، ويقابل احتجاج الركاب بقولته المشهورة )يا جماعة الحكاية دايرة صبر، فالدنيا بتدور والآخرة بتدور(، أي الدنيا تريد المال والآخرة تريد الأجر، وكانت هذه فلسفته ومنهجه في الحياة حيث تتلاشى المساحة بين الدنيا والآخرة.
)3(
ثلاثة أشياء ميزت الحبيب عن بقية الناس، وهي الكد والاجتهاد، فقد كان عصاميا لا يعرف الراحة، ثانيا البسمة والضحكة لا تفارق محياه في أحلك الظروف، ثالثا التقوى والورع، فهو لا يضحي بصلاة الجماعة تحت أي ظرف. ومن طرائفه أنه مطلع سبعينيات القرن الماضي دخل على صديقنا أحمد المصطفى إبراهيم ويومها كان أحمد طالبا بمعهد المعلمين العالي واشترى من أول ماهية ملاءات وفرشها، فقال له: يا أحمد الملايات دي حاتكون مفرشة كدا طوالي؟ فأجابه بالإيجاب، فعلق الحبيب قائلا: )إذن مافي عرس(، قابلته قبل عدة شهور في مقابر القرية الجديدة ونحن نقبر أحد الأهل فأخذ يتغزل في المقابر الجديدة مقارنا بينها وبين تلك التي امتلأت فقال لي: )يا فلان والله نحن محظوظين، بالله شوف المقابر دي جميلة كيف؟( فقلت: )هل أنت جاهز يا حبيب؟(، فرد: )موية ونور(، فقلت له: )وقت الناس الضاع في باصاتك الهكر مش أنت مسؤول منه؟(، فقال: )والله أديت الناس أجمل ذكريات في باصاتي يا اخي، والله في أي قرية من قرى الخط أمشي تلقى الواحد يقالدك، وهو يصيح: يا عمك دايرة صبر، ثم يحكي لي رحلة من رحلاته معي(.
)4(
في الجمعة قبل الأخيرة صلى الحبيب بالجماعة صلاة الصبح، ثم قاد حلقة التلاوة، وبعد شروق الشمس أغلق المسجد وذهب إلى بيته وتناول كباية الشاي ثم رقد رقدته الأبدية، كانت المسافة بين حياته وموته صفر، وهكذا كان سهلا في حياته وسهلا في مماته، فبكته القرية وشيَّعته، وكان أي مُشيِّع يشعر بأن الحبيب فقده الخاص. اللهم ارحم عبدك الحبيب جيب الله ووسع مرقده وأسكنه الفردوس الأعلى وصبّرنا على فراقه، واجعل البركة في ذريته.

قد يعجبك أيضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبولقراءة المزيد