أمس قابلني مواطن من غمار الناس، يبدو من مُحيَّاه ثقل الأيام والحال، أظنه يعمل بائعا متجولا لبضاعة -لو باعها كلها وكلَّ يوم- لما أشبعت أسرة من ثلاثة أشخاص.. باغتني بسؤال عجيب “يا أستاذ، الوزارة شكَّلوها؟” فرددت عليه بسؤال مضاد “هل السيدة والدتكم مرشحة لشغل إحدى الوزارات؟”، في عينيه أطلَّ استغراب عجيب، سألته “أبوك، أخوك، خالك، عمك.. هل أحدهم مرشح لوزارة؟”، لم يكن ممكنا أن أنتظره يكمل هلال الدهشة في حاجبيه.. فأنهيت باقة أسئلتي..”إذًا؛ لمَ تسألُ عن الوزارة؟”.. والحقيقة؛ أينما ذهبت أجد هذا السؤال يتابعني مثل قول الشاعر إسماعيل حسن (محل قبَّلت ألقاه معاي.. معاي زي ضلي).
الناس في بلدي يظنون أن (الحل في التشكيلة).. هناك إحساس في ضمير الشعب متخمر منذ الاستقلال أن الوزراء يصنعون سعد الوطن.. وهذا محض أوهام.
قضيت وقتا مقدَّرا من نهار أمس في مؤسسة سودانية مهمة لكنها تقع في حزام (المنسي).. ففي بلد المليون سياسي لا أحد لديه الوقت للتفرس في عضلاتنا الحقيقية التي نستطيع بها بناء مستقبل أكثر إشراقا.. الجميع ينتظرون (التشكيلة).. المؤسسة هي (المركز القومي للبحوث) وربما الكثيرون لا يعرفون مكانه، وإن عرفوا فلن يعرفوا مكانته.
هذا المركز الذي تأسس منذ العام 1969 يضم عددا كبيرا من الخبراء في مختلف التخصصات يعملون في صمت وينجزون كثيرا من الحلول.. ومن بينها ما سأحكيه لكم الآن.
معلوم أن امتلاك بيت هو حلم كل سوداني، ومن أجله يتغرب السودانيون في أقاصي الدنيا وينذرون عمرا طويلا.. حسنا في عهد الثورة من أول الموجبات، وكما سقطت الديكتاتورية فيجب أن تسقط الأحلام المهدرة للعمر.. لماذا لا نحول (اليت) من حلم إلى (حق) يجب أن يتمتع به كل سوداني دون أن يشد له الرحال.. ليتفرغ العقل السوداني للإبداع والإنتاج والعطاء أكثر من الغرق في بحر المطالب الذاتية..
استطاع المركز القومي للبحوث إنتاج (طوب) عالي المستوى والصلابة من التربة العادية، بلا حاجة لاستخدام الماء ولا نار الحرق بالكمائن، الاختراع عبارة عن آلة صغيرة تضغط التربة العادية وتحولها إلى طوب شديد الصلابة مقاوم للحرارة بتكلفة زهيدة للغاية، واستخدم في عدة مبانٍ حديثة بالخرطوم وأثبت نجاحا كبيرا علاوة على حسن منظره.
الآن؛ في تقديري يجب أن تكتمل الصورة، نريد تصميم (بيت سوداني أخضر) يُبنى كله بهذا الطوب، ويستخدم الطاقة الشمسية، ويتمتع بشبكة صرف صحي حديثة.. ومع تقنية الإنتاج الكمي الضخم من الممكن أن لا تزيد كلفة بيت لأسرة متوسطة عن 5 آلاف دولار.. يستطيع سدادها المواطن بالأقساط على عدة سنوات بحيث لا يزيد القسط عن قيمة إيجار زهيد.
هنا تصنع الحلول.. وليس في (التشكيلة).. فلماذا تنتظر (التشكيلة)؛ إلا إذا كان أبوك أو أمك أو أخوك مرشَّحًا لوزارة.
