صحيفة كورة سودانية الإلكترونية

شكرا.. صلاح

10

حديث المدينة

عثمان ميرغني

شكرا.. صلاح

 

 

 

ليس أفجعَ من رحيل الفنان الكبير صلاح ابن البادية إلا الإحساس الرسمي بأن موت فنان لا يستحق أكثر من بيان رسمي في الإعلام ممهورا باسم وزير الإعلام أو حتى رئيس الوزراء أو من هو أعلى.
هذا الجيل من المبدعين السودانيين، الذي يكاد يتلاشى، لم يكن مجرد شعراء وأدباء وموسيقيين وملحنين وفنانين.. بل كانوا صناع أمة.. إبداعهم صنع الأمة السودانية التي بقدر ما دمرها الساسة وشتتوا شملها، صاغوا هم -المبدعون- وجدانها ووحَّدوه في مزيج سحري عجيب يجعل السوداني في أقصى جنوب مدينة “ياي” منسجما مع مزاج أخيه في أقصى وادي حلفا.. ومن أقصى قرورة وطوكر إلى أقصى مدينة الجنينة.. لم يكن السودان خارطة جغرافية و حدودا سياسية.. بل ثوبا مطرَّزا بنَفَس واحد.. وروحٍ واحدة..
في الماضي ومع تباعد المسافات وقلة المواصلات كان الفنانون السودانيون يجوبون الوطن قرية قرية.. يركبون القطارات واللواري بل وحتى الحمير لإحياء حفلاتهم في كل ركن من السودان، وكثير من أغنياتهم الخالدة وُلِدَت في أيام التسفار في مدن بعيدة.. مثل أغنية (ما في داعي) للفنان محمد وردي التقطها من شاعرها محمد عثمان كجراي عندما قابله في مدينة “واو” بجنوب السودان عام 1963.
الإبداع الذي خلفه هؤلاء الخالدون تجاوز المعقول.. تصوَّروا فنانا مثل إبراهيم الكاشف لا يقرأ ولا يكتب.. يؤلف أعظم الألحان والمقدِّمات الموسيقية التي يعجز عنها حتى أذكى وأشطر الموسيقيين.. وعدد مقدر من أشهر الفنانين هم من رحيق الحياة العادية أصحاب حرف ومهن بسيطة (نجار، حداد، جزار، ترزي) طبعا تعرفونهم جميعا.. سجلوا في تاريخ السودان أعظم الأغاني والألحان الخالدة..
أمس، تلقينا بحزن كبير نبأ رحيل الفنان صلاح ابن البادية، بعد حياة باذخة شامخة أتحف فيها وطنه بإبداع لا ينتهي.. ويظل السؤال قائما.. هل يتحوَّل المبدع يوم رحيله لسرادق مأتم في بيت أسرته الصغيرة، وتنتهي المراسم بانتهاء العزاء؟
هذه دعوة لتخليد ذكرى المبدعين الذي وحَّدوا وجملوا وجدان هذه الأمة بمتحف خاص بهم، فليكن متحف “الشمع” ويضم أيضا متعلقاتهم من آلات موسيقية وغيرها..
الأمم العظيمة يصنعها العظماء.. فتخلد ذكراهم..
رحم الله الفنان صلاح ابن البادية وأسكنه عليين مع الأنبياء والشهداء والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقا.. والعزاء لكلِّ أهل السودان أولا.. ولأسرته وأهله وأحبابه ثانيا.

قد يعجبك أيضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبولقراءة المزيد