صحيفة كورة سودانية الإلكترونية

لم تسقط بعد  !!

12

 

حديث المدينة

عثمان ميرغني

لم تسقط بعد  !!

مساء أمس اتصلوا بي من إذاعة أم درمان للمشاركة بمداخلة في برنامج خاص بمناسبة الذكرى الخمسين لرحيل الزعيم الأزهري.. أدركت أن شبابنا في الإذاعة يحاولون الخروج عن الثوب المعتق لـ(إذاعة النظام) لتكون بحق (إذاعة المواطن).. وفي سياق المداخلة القصيرة قال لي المذيع “الأزهري كان زعيما متفردا، يقوم الليل ويحافظ على وضوئه طوال اليوم”.
بصراحة صُدمت للغاية.. ليس في تلخيص السيرة الذاتية للأزهري بهذه الصورة بل أكثر من ذلك لسببين؛ الأول هو ما يدفعه المواطن السوداني من حر مال فقره المدقع لمثل هذا الإعلام، لا أريد أن أحبط شباب الإذاعة لكن الأمر هنا بمنتهى الجدية يتعلق بهذا السلاح الخطر الذي يسمى “الإعلام” وتنفق فيه الدول ميزانيات باهظة للغاية لأنها تعلم أنه واحد من أقوى أسلحة العصر الحديث.
الشباب الذين صنعوا هذه الثورة ودفعوا فيها الدماء والدموع والسجون والتشرد وأنفقوا فيها أموالا كبيرة، هل يمكن أن تحقق أهدافها بلا إعلام؟ وأكرر أن الأمر ليس شخصيا محصورا في الحلقة الإذاعية التي شاركتُ فيها أمس، لا بل هي كانت مجرد المناسبة التي لفتت نظري لخطورة الوضع.
أما الوجه الآخر لهذه المسألة، وهو أخطر، ربط العبادات الشخصية بالسيرة الذاتية، خاصة في مثل هذا المقام عند الحديث عن رجل شارك في صنع تاريخ السودان الحديث وارتبط بمنحنيات كبيرة، مؤتمر الخريجيين، نشأة الأحزاب السودانية، الانتقال من الاستعمار إلى الحكم الوطني، الدعوة الصارخة الجريئة للاستنارة السياسية ورفض التدثر بجماهيرية الطائفية، وانتزاع ثقة الناخب السوداني دعما لهذه الاستنارة.. ثم هضاب ومنحنيات الديموقراطية في مواجهة الدكتاتورية حتى آخر رمق في حياته وهو يصارع المرض بسجن كوبر، ثم يكتب السطر الأخير من مرافعته بمستشفى الخرطوم، فينعيه النظام الحاكم ويصفه بأنه (مدرس حساب)!.
العبادات في حدِّها الأدنى المفروض أو في سقفها الأعلى المتطوع به شأن فردي وشخصي لا يُعتدُّ به إلا في حساب تأثيره على العمل العام إيجابا أو سلبا. فالحاكم أو الزعيم السياسي ميزانه العدالة والصدق والنزاهة والإحسان إلى شعبه وتنفيذ المشروعات التي تخدم المواطن وترفع من كرامته.. مقياس عملي ظاهر للعيان لا علاقة له بصلاة في جوف الليل أو وضوء في النهار.. وفي السيرة النبوية الشريفة أكد الرسول المصطفى أن من يسعى بحوائج الناس أفضل ممن يعتكف في المسجد:
(من مشى في حاجة أخيه كان خيرا له من اعتكاف عشر سنين). مجرَّد حاجة رجل واحد دعْ عنك شعبا بأكمله ينتظر من المسؤول أن ينجز حوائجه.
هذا بكلِّ أسف فهم خاطئ للدين والإعلام وقبلها للثورة المجيدة التي يفترض أن هذا الإعلام هو ذراعها الأيمن في التغيير.
يا شباب إذاعة أم درمان، دماء الشهداء في أعناقكم..

قد يعجبك أيضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبولقراءة المزيد