صحيفة كورة سودانية الإلكترونية

منه العوض وعليه العوض

17

زاوية غائمة
جعفر عباس
منه العوض وعليه العوض


التعويض غير معروف في ثقافتنا، ما لم يكن متعلقًا بهلاك الجسد كليًا أو جزئيًا، وقد ألقت بي حكومة جعفر نميري في السجن عدة أشهر، دون أن يقول لي أي شخص ما هي جريمتي، وطردتني بعد ذلك من عملي فاتصلت بمحام لرفع دعوى تعويض، ولكنه قال لي: منه العوض وعليه العوض! وقد تكون مقيمًا في بيت لأربعين سنة في ضاحية اخترتها لأنها هادئة، ثم تقرر الحكومة أن جسرًا به خمسة مسارات في أربعة اتجاهات سيقام أمام بيتك مباشرة، فتصبح الإقامة في بيتك مثل الإقامة في ورشة لصنع أواني الألمونيوم يدويًا، وإذا طالبت بتعويض صادروا بيتك، وقد تلبسك الشرطة تهمة وتحتجزك عدة أشهر تفقد خلالها وظيفتك، وربما تطلقك خلالها زوجتك، »جميع الصحف العربية تمارس ما يعرف في لغة القانون بـ»ازدراء المحاكم« لأنها وبمجرد اعتقال شخص ما للتحقيق معه تسميه »متهم« مع أن ذلك الشخص لا يصبح متهما ما لم يقبل القاضي الاتهام الموجه إليه«
في بريطانيا ارتفعت قيمة تذاكر السفر جوًا لأن سلطات الطيران المدني قررت صرف منح شهرية ثابتة لمن يعيشون قرب المطارات بمسمى »بدل إزعاج«! وقامت تحميل الركاب كلفة تلك المنح؛ أي رفعت أسعار تذاكر السفر جوا، وعندنا قد تقوم طائرة ما بهبوط اضطراري في فناء بيتك، فيصبح ذلك دليلا على أن بيتك في المكان الخطأ فيتم طردك منه، بعد اتهامك بأنك تعوق »انطلاقة« البلاد!
وأحكي لكم للمرة العاشرة، ربما، حكاية تسجيل عيالي في مدارس بريطانيا عندما ذهبت إلى ذلك البلد خبيرًا أجنبيًا في منتصف التسعينيات، وكنت قد اتخذت كل الإجراءات الكفيلة بتسجيلهم دون تسويف، فقمت بتوثيق شهادات ميلادهم وشهاداتهم المدرسية وعقد زواجي ولم أترك طابعًا أو خاتمًا إلا وضعته على تلك الأوراق، ولك أن تتخيل مدى إحساسي بالحزن عندما لم يسألني أحد عن تلك الشهادات، لأن تسجيلهم تم بالهاتف، ولأنهم كانوا منتقلين من مدارس عربية حيث يشترط على كل طفل أن يكون عمره ست سنوات وأسبوعًا وخمس ساعات وعشرين ثانية عند الالتحاق بالصف الأول من المرحلة الابتدائية، فقد فوجئت بهم في بريطانيا ينقلون كل واحد من عيالي صفًا أو سنة كاملة إلى الأمام
قرأت في صحيفة عربية تجربة تلميذتين في الصف الأول الابتدائي، قالت لهما مديرة المدرسة عند نهاية العام الدراسي الماضي: سوري… لازم تعيدوا السنة من أول وجديد!! قالوا: خير يا أبله، فنحن اجتزنا الامتحانات بتفوق، وقلتم لنا قبل قليل مبروك ستنقلون إلى الصف الثاني!! قالت لهم الأبله: سوري بس الوزارة قالت إنكم ناقصين عن سن القبول الأصلي ثلاثة أيام وساعتين إلا ربع!! وسمعنا بحكايتي البنتين لأن والديهما قررا توصيل غضبهما وحزنهما للصحف، بينما لم يتمكن من ذلك آباء وأمهات 48 تلميذة أخريات، قالت لهن إدارات مدارسهن في ذلك البلد العربي بمناسبة نهاية العام الدراسي، إن وجودهن في المدارس طوال عام كامل كان خطأ، وبالتالي فإنهن مفصولات!! بموجب لوائح وزارة »التربية«؛ ونِعم التربية التي تضع اللوائح فوق الاعتبارات التربوية والإنسانية!
لو كانت لدينا »ثقافة تعويض« لجرجر أولياء أمور هؤلاء الأطفال الوزارة في المحاكم، لأن المسألة تتعلق بالإخلال بشروط عقد بين الوزارة وبينهم، فبمجرد تسجيل أولئك البنات في مدارس وإعطائهن مستندات بذلك، وحثهن على المذاكرة ثم تزويدهن بنتائج امتحانات الفصل الأول وغيره يصبح ذلك عقدًا ملزمًا، والبنت التي طلبوا منها إعادة عام دراسي أكملته سلفًا ستفقد »سنة« في كل المراحل، وستتأخر ترقيتها سنة كاملة وربما أكثر بعد دخولها الحياة العملية، بل إن زواجها سيتأخر سنة فإذا طلب أحدهم يدها وهي في الصف الثالث الجامعي مثلا سيقول له أهلها: انتظر سنة حتى تكمل سنتها الرابعة وتنال الشهادة! وعندما تنال الشهادة يكون العريس قد »طفش«، ثم إن الفتيات الخمسين لم يدخلن المدارس بقوة السلاح، بل تم قبولهن لوجود شواغر أي أماكن لاستيعابهن، فأي منطق تربوي هذا الذي يحرمهن من جهد سنة كاملة؟

قد يعجبك أيضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبولقراءة المزيد